فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة المنافقون فِيها ثلاثُ آياتٍ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {إذا جاءك الْمُنافِقُون قالوا نشْهدُ إنّك لرسُولُ اللّهِ واللّهُ يعْلمُ إنّك لرسُولُهُ واللّهُ يشْهدُ إنّ الْمُنافِقِين لكاذِبُون} فِيها ثلاثُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
الشّهادةُ تكُونُ بِالْقلْبِ؛ وتكُونُ بِاللِّسانِ، وتكُونُ بِالْجوارِحِ؛ فأمّا شهادةُ الْقلْبِ فهُو الِاعْتِقادُ أوْ الْعِلْمُ على رأْيِ قوْمٍ، والْعِلْمُ على رأْيِ آخرِين.
والصّحِيحُ عِنْدِي أنّهُ الِاعْتِقادُ والْعِلْمُ كما بيّنّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ والدِّينِ.
وأمّا شهادةُ اللِّسانِ فبِالْكلامِ، وهُو الرُّكْنُ الظّاهِرُ مِنْ أرْكانِها، وعليْهِ تُبْنى الْأحْكامُ، وتترتّبُ الْأعْذارُ والِاعْتِصامُ.
قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْت أنْ أُقاتِل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّهُ؛ فإِذا قالوها عصمُوا مِنِّي دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إلّا بِحقِّها؛ وحِسابُهُمْ على اللّهِ».
المسألة الثّانِيةُ:
قوله تعالى: {واللّهُ يعْلمُ إنّك لرسُولُهُ واللّهُ يشْهدُ إنّ الْمُنافِقِين لكاذِبُون}.
إنّ الْبارِئ سبحانه وتعالى علِم وشهِد؛ فهذا عِلْمُهُ.
وشهادتُهُ قوله تعالى: {شهِد اللّهُ أنّهُ لا إله إلّا هُو} وأمْثالُهُ.
وقدْ يُقال: شهادةُ اللّهِ على ما كان مِنْ الشّهاداتِ فِي ذاتِ اللّهِ، يُقال: واللّهُ يشْهدُ إنّ الْمُنافِقِين لكاذِبُون فِي قولهِمْ بِألْسِنتِهِمْ ما لا يعْتقِدُونهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فخدعُوا وغرُّوا، واللّهُ خادِعُهُمْ وماكِرٌ بِهِمْ، وهُو خيْرُ الْماكِرِين.
المسألة الثّالِثةُ:
قال بعْضُ الشّافِعِيّةِ: إنّ قول الشّافِعِيِّ: إنّ الرّجُل إذا قال فِي يمِينِهِ أشْهدُ بِاللّهِ يكُونُ يمِينا بِنِيّةِ الْيمِينِ.
ورأى أبُو حنِيفة ومالِكٌ أنّهُ دُون النِّيّةِ يمِينٌ، فليْس الْأمْرُ كما زعم الشّافِعِيُّ أنّها تكُونُ يمِينا بِالنِّيّةِ، ولا أرى الْمسْألة إلّا هكذا فِي أصْلِها، وإِنّما غلِط هذا الْعالِمُ أوْ غلِط فِي النّقْلِ.
وقدْ قال مالِكٌ: إذا قال الرّجُلُ أشْهدُ: إنّهُ يمِينٌ إذا أراد بِاللّهِ.
الْآيةُ الثّانِيةُ قوله تعالى: {اتّخذُوا أيْمانهُمْ جُنّة فصدُّوا عنْ سبِيلِ اللّهِ إنّهُمْ ساء ما كانُوا يعْملُون} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
قوله تعالى: {اتّخذُوا أيْمانهُمْ جُنّة} ليْس يرْجِعُ إلى قولهِ: {نشْهدُ إنّك لرسُولُ اللّهِ} وإِنّما يرْجِعُ إلى سببِ الْآيةِ الّذِي نزلتْ عليْهِ، وهُو ما رُوِي فِي الصّحِيحِ بِألْفاظٍ مُخْتلِفةٍ، مِنْها عنْ أبِي إِسْحاق عنْ زيْدِ بْنِ أرْقم قال: كُنْت فِي غُزاةٍ فسمِعْت عبْد اللّهِ بْن أُبيٍّ يقول: لا تُنْفِقُوا على منْ عِنْد رسُولِ اللّهِ حتّى ينْفضُّوا مِنْ حوْلِهِ، ولئِنْ رجعْنا إلى الْمدِينةِ ليُخْرِجنّ الْأعزُّ مِنْها الْأذلّ، فذكرْت ذلِك لِعمِّي، فذكر ذلِك لِرسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فدعانِي فجِئْته، فأرْسل رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبْدِ اللّهِ بْنِ أُبيٍّ وأصْحابِهِ.
فحلفُوا ما قالوا؛ فكذّبنِي رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وصدّقهُ، فأصابنِي همٌّ لمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ فجلسْت فِي الْبيْتِ، فقال عمِّي: ما أردْت إلّا إلى أنْ كذّبك رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنْزل الله تعالى: {إذا جاءك الْمُنافِقُون قالوا نشْهدُ إنّك لرسُولُ اللّهِ واللّهُ يعْلمُ إنّك لرسُولُهُ واللّهُ يشْهدُ إنّ الْمُنافِقِين لكاذِبُون} فبعث إليّ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ اللّه قدْ صدّقك».
فتبيّن بِهذا أنّ قوله تعالى: {اتّخذُوا أيْمانهُمْ جُنّة} إشارةٌ إلى أنّ ابْن أُبيٍّ حلف أنّهُ ما قال. وقدْ قال.
وليْس ذلِك بِراجِعٍ إلى قوله تعالى: {نشْهدُ إنّك لرسُولُ اللّهِ} فاعْلمُوهُ.
المسألة الثّانِيةُ:
هذِهِ الْيمِينُ كانتْ غمُوسا كاذِبة مِنْ عدِيمِ الْإِيمانِ؛ فهِي مُوجِبةٌ لِلنّارِ، أمّا عدمُ إيمانِهِ فبِقوله تعالى: {ذلِك بِأنّهُمْ آمنُوا ثُمّ كفرُوا فطُبِع على قُلُوبِهِمْ فهُمْ لا يفْقهُون}.
وأمّا عدمُ الثّوابِ فِيهِمْ ووُجُوبُ الْعِقابِ لهُمْ فبِآياتِ الْوعِيدِ الْوارِدةِ فِي الْكُفّارِ. وقدْ كثُر ذلِك فِي القرآن.
الْآيةُ الثّالِثةُ قوله تعالى: {وأنْفِقُوا مِمّا رزقْناكُمْ مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمْ الْموْتُ فيقول ربِّ لوْلا أخّرْتنِي إلى أجلٍ قرِيبٍ فأصّدّق وأكُنْ مِنْ الصّالِحِين} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
روى التِّرْمِذِيُّ وغيْرُهُ عنْ ابْنِ عبّاسٍ أنّهُ قال: منْ كان لهُ مالٌ يُبلِّغُهُ حجّ بيْتِ ربِّهِ، أوْ تجِبُ فِيهِ الزّكاةُ فلمْ يفْعلْ شيْئا سأل الرّجْعة عِنْد الْموْتِ.
فقال رجُلٌ: يا ابْن عبّاسٍ؛ اتّقِ اللّه؛ إنّما سأل الرّجْعة الْكُفّارُ.
قال: سأتْلُو عليْك بِذلِك قرآنا: {يأيُّها الّذِين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عنْ ذِكْرِ اللّهِ ومنْ يفْعلْ ذلِك فأُولئِك هُمْ الْخاسِرُون وأنْفِقُوا مِمّا رزقْناكُمْ مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمْ الْموْتُ فيقول ربِّ لوْلا أخّرْتنِي إلى أجلٍ قرِيبٍ فأصّدّق وأكُنْ مِنْ الصّالِحِين ولنْ يُؤخِّر اللّهُ نفْسا إذا جاء أجلُها واللّهُ خبِيرٌ بِما تعْملُون}
قال: فما يُوجِبُ الزّكاة؟ قال: إذا بلغ الْمالُ مِائتيْ دِرْهمٍ فصاعِدا.
قال: فما يُوجِبُ الْحجّ؟ قال: الزّادُ والْبعِيرُ.
المسألة الثّانِيةُ:
أخذ ابْنُ عبّاسٍ بِعُمُومِ الْآيةِ فِي الْإِنْفاقِ الْواجِبِ خاصّة دُون النّفْلِ.
وهُو الصّحِيحُ؛ لِأنّ الْوعِيد إنّما يتعلّقُ بِالْواجِبِ دُون النّفْلِ.
وأمّا تفْسِيرُهُ بِالزّكاةِ فصحِيحٌ كُلُّهُ عُمُوما وتقْدِيرا بِالْمِائتيْنِ.
وأمّا الْقول فِي الْحجِّ ففِيهِ إشْكالٌ؛ لِأنّا إنْ قُلْنا: إنّ الْحجّ على التّراخِي ففِي الْمعْصِيةِ فِي الْموْتِ قبْل أدائِهِ خِلافٌ بيْن الْعُلماءِ بيّنّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فلا تُخرّجُ الْآيةُ عليْهِ.
وإِنْ قُلْنا: إنّ الْحجّ على الْفوْرِ فالْآيةُ على الْعُمُومِ صحِيحٌ؛ لِأنّ منْ وجب عليْهِ الْحجُّ فلمْ يُؤدِّهِ لقِي مِنْ اللّهِ ما يودُّ أنّهُ رجع لِيأْتِي بِما ترك مِنْ الْعِباداتِ.
وأمّا تقْدِيرُ الْأمْرِ بِالزّادِ والرّاحِلةِ ففِي ذلِك خِلافٌ بيْن الْعُلماءِ، وليْس لِكلامِ ابْنِ عبّاسٍ فِيهِ مدْخلٌ، لِأجْلِ أنّ الرّجْعة والْوعِيد لا يدْخُلُ فِي الْمسائِلِ الْمُجْتهدِ فِيها والْمُخْتلفِ عليْها؛ وإِنّما يدْخُلُ فِي الْمُتّفقِ عليْهِ.
والصّحِيحُ تناوُلُهُ لِلْواجِبِ مِنْ الْإِنْفاقِ كيْف تصرّف بِالْإِجْماعِ أوْ بِنصِّ القرآن، لِأجْلِ أنّ ما عدا ذلِك لا يتطرّقُ إليْهِ تحْقِيقُ الْوعِيدِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة المنافقون:
{إِذا جاءك الْمُنافِقُون قالوا نشْهدُ إِنّك لرسُولُ اللّهِ واللّهُ يعْلمُ إِنّك لرسُولُهُ واللّهُ يشْهدُ إِنّ الْمُنافِقِين لكاذِبُون (1)}
قوله: {إِذا جاءك}: شرطٌ. قيل: جوابُه قالوا. وقيل: محذوفٌ. و{قالوا} حالٌ، أي: جاؤوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبلْ منهم. وقيل: الجوابُ {اتخذوا أيْمانهُمْ جُنّة} وهو بعيدٌ، و{قالوا} أيضا حالٌ.
قوله: {قالواْ نشْهدُ} جرى مجْرى القسمِ كفعل العِلْم واليقين، ولذلك تُلُقِّيتْ بما يُتلقّى به القسمُ في قوله: {إِنّك لرسُولُ الله} وفي قوله:
ولقد علِمْتُ لتأْتِينّ منِيّتي ** إنّ المنايا لا تطيشُ سِهامُها

وقد تقدّم خلافُ الناسِ في الصدق والكذبِ واستدلالُهم بهذه الآيةِ، والجوابُ عنها، أول البقرة.
قوله: {والله يعْلمُ} جملة معترضةٌ بين قوله: {نشْهدُ إِنّك لرسُولُ} وبين قوله: {والله يشْهدُ} لفائدةٍ، قال الزمخشري: لو قال: قالوا نشهد إنّك لرسول الله، واللّهُ يشْهد إنّهم لكاذبون، لكان يُوْهِم أنّ قولهم هذا كذبٌ، فوسّط بينهما قوله: {والله يعْلمُ إِنّك لرسُولُهُ} ليُميط هذا الإِبْهام.
{اتّخذُوا أيْمانهُمْ جُنّة فصدُّوا عنْ سبِيلِ اللّهِ إِنّهُمْ ساء ما كانُوا يعْملُون (2)}
قوله: {اتخذوا}: قد تقدّم أنه يجوزُ أنْ يكون جوابا للشرط، ويجوز أنْ يكون مستأنفا، جيْء به لبيانِ كذبِهم وحلْفِهم عليه، أي: إنّ الحامل لهم على الإِيمان اتِّقاؤهم بها عن أنفسِهم. والعامّةُ على فتح الهمزة جمع (يمين) والحسن بكسرِها مصدرا. وتقدّم مثله في المجادلة. والجُنّةُ: التُّرْسُ ونحوُه، وكلُّ ما يقيك سوءا. ومن كلامِ الفصحاء: (جُبّةُ البُرْدِ جُنّةُ البرْدِ) وقال أعشى همدان:
إذا أنت لم تجعلْ لِعرْضِك جُنّة ** من المالِ سار الذّمُّ كلّ مسِيرِ

قوله: {ساء ما كانُواْ} يجوز أن تكون الجارية مجْرى بئْس، وأنْ تكون على بابها، والأولُ أظهرُ، وقد تقدّم حكمُ كلٍ منهما ولله الحمد، وقوله: {فطُبِع} هذه قراءة العامّة أعني بناءه للمفعول. والقائمُ مقام الفاعلِ الجارُّ بعده. وزيد بن علي {وطبع} مبنيا للفاعل. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، ويدُلُّ عليه قراءة الأعمشِ، وقراءته هو في روايةٍ عند {فطبع اللّهُ} مُصرّحا بالجلالةِ. والثاني: أنّ الفاعل ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المفهومِ مِمّا قبله، أي: فطبع هو، أي: تلْعابُهم بالدين.
{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجْسامُهُمْ وإِنْ يقولوا تسْمعْ لِقولهِمْ كأنّهُمْ خُشُبٌ مُسنّدةٌ يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ هُمُ الْعدُوُّ فاحْذرْهُمْ قاتلهُمُ اللّهُ أنّى يُؤْفكُون (4)}
قوله: {تسْمعْ}: العامّةُ بالخطاب، و{لِقولهم} متعلِّقٌ به وضُمِّن {تسْمعْ} معنى تُصْغي وتميلُ، فلِذلك عُدِّي باللام. وقيل: بل هي مزيدةٌ، أي: تسمعُ قولهم. وليس بشيءٍ؛ لنصاعةِ معنى الأول. وقرأ عطيةُ العوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنيا للمفعول، والقائم مقام الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ. ومنْ اعتقد زيادة اللامِ أولا لم يجُزْ أنْ يعتقدها هنا، أي: تسمعْ قولهم؛ لأنّ اللام لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبهه.
قوله: {كأنّهُمْ خُشُبٌ} في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنّها مستأنفةٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم كأنّهم، قالهما الزمخشري. والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في {قولهم} قاله أبو البقاء. وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ {خُشْب} بضمٍ وسكونٍ، وباقي السبعةِ بضمتين. وقرأ السعيدان: ابنُ جبير وابنُ المسيّب بفتحتين، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيره. فأمّا القراءة بضمتيْن فقيل: يجوزُ أنْ تكون جمع خشبة نحو: ثمرة وثُمُر، قاله الزمشخريُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن هذه الصيغة محفوظةٌ في فعلة لا تنْقاس نحو: ثمرة وثُمُر. ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي أنه جمعُ خشْباء، وأحْسبُه غلِط عليه لأنه قد يكون قال: {خُشْب} بالسكون جمع خشْباء نحو: حمْراء وحُمْر؛ لأنّ فعْلاء الصفة لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ. وقوله (الزبيدي) تصحيفٌ: إمّا منه وإمّا من الناسخِ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء، نقل ذلك الزمخشري. وقال أبو البقاء: {وخُشْب} بالضمِّ والإِسكان جمعُ خشب مثل: أسد وأُسْد. انتهى. فهذا يُوهم أنه يقال: أُسُد بضمتين وليس كذلك.
وأمّا القراءة بضمةٍ وسكونٍ فقيل: هي تخفيفُ الأُولى. وقيل: هي جمعُ خشْباء وهي الخشبةُ التي نُخِر جوْفُها، أي: فُرِّغ، شُبِّهوا بها لفراغِ بواطنِهم مِمّا يُنْتفعُ به. وقيل: هي جمعُ خشبة نحو بدنة وبُدْن، قاله الزمخشري.
وأمّا القراءة بفتحتيْن فهو اسمُ جنسٍ، وأُنِّثتْ صفتُه كقوله: {نخْلٍ خاوِيةٍ} [الحاقة: 7] وهو أحدُ الجائزين.
وقوله: {مُّسنّدةٌ} تنبيهٌ على أنها لا يُنْتفعُ بها، كما يُنتفع بالخشبِ في سقْفٍ وغيرِه، أو شبهوا بالأصنامِ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان.
قوله: {يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ} فيه وجهان، أظهرهما: أنّ {عليهم} هو المفعولُ الثاني للحُسْبان، أي: واقعة وكائنة عليهم، ويكون قوله: {هم العدوُّ} جملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك. والثاني: أنْ يكون {عليهم} متعلقا بصيحة، و{هم العدوُّ} الجملة في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان. قال الزمخشري: ويجوزُ أنْ يكون {هم العدوُّ} هو المفعول الثاني: كما لو طرحْت الضمير. فإنْ قلت: فحقُّه أن يُقال: هي العدو قلت: منظورٌ فيه إلى الخبر، كما ذُكِر في قوله: {هذا ربِّي} [الأنعام: 77]، وأنْ يُقدّر مضافٌ محذوفٌ على (يحْسبُون كلّ أهلِ صيحةٍ) انتهى. وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ.
قوله: {أنّى يُؤْفكُون} {أنّى} بمعنى كيف. وقال ابن عطية: ويُحْتملُ أنْ يكون {أنّى} ظرفا ل {قاتلهم} كأنّه قال: قاتلهم اللهُ كيف انصرفوا، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القول استفهامٌ على هذا. انتهى. وهذا لا يجوزُ؛ لأنّ {أنّى} إنما هي بمعنى كيف، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تتمحّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلها البتة، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ.
{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ لوّوْا رُءُوسهُمْ ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُمْ مُسْتكْبِرُون (5)}
قوله: {يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ الله}: هذه المسألةُ عدّها النحاةُ من الإِعمالِ، وذلك أنّ {تعالوا} يطلبُ {رسولُ الله} مجرورا ب إلى، أي: تعالوا إلى رسولِ الله، و{يسْتغفر} يطْلبه فاعلا، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه، وحذف من الأول؛ إذ التقدير: تعالوْا إليه، ولو أعْمل الأول لقيل: إلى رسولِ الله يسْتغفر، فيُضمر في {يسْتغفر} فاعلٌ ويمكن أنْ يقال: ليستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنّ قوله: {تعالوْا} أمرٌ بالإِقبال من حيث هو، لا بالنّظر إلى مُقْبلٍ عليه.
قوله: {لوّوْا} هذا جوابُ {إذا}. وقرأ نافع {لووْا} مخففا، والباقون مشدّدا على التكثير و{يصُدُّون} حال لأنّ الرؤية بصريّةٌ، وكذا قوله: {وهم مُستكبرون} حالٌ أيضا: إمّا من صاحب الحالِ الأولى، وإمّا مِنْ فاعل {يصُدُّون} فتكونُ متداخلة. وأتى ب {يصُدُّون} مضارعا دلالة على التجدُّدِ والاستمرار. وقرئ {يصِدُّون} بالكسر وقد تقدّمنا في الزخرف.
{سواءٌ عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ لنْ يغْفِر اللّهُ لهُمْ إِنّ اللّه لا يهْدِي الْقوْم الْفاسِقِين (6)}
قوله: {أسْتغْفرْت}: قراءة العامّةُ بهمزةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مدّ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ. وقرأ يزيد ابن القعقاع {آسْتغْفرْت}. بهمزةٍ ثم ألفٍ، فاختلف الناس في تأويلِها، فقال الزمخشري: إشْباعا لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان، لا قلْبا لهمزة الوصل كما في {آلسحرُ} و{آللهُ} يعني أنه أشبع فتحة همزةِ التسويةِ فتولّد منها ألفٌ، وقصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها، لا أنه قلب الوصل ألفا كما قلبها في قوله: {آلسحرُ} {آللهُ أذِن لكم} لأنّ هذه الهمزة للوصْل، فهي تسْقُط في الدّرْج. وأيضا فهي مكسورةٌ فلا يلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر: بخلاف {آلسحر} و{آلله}. وقال آخرون: هي عِوضٌ من همزةِ الوصلِ. كما في {آلذّاكريْن} وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدلُ ألفا؟ وأيضا فإنما قلبْناها هناك ألفا ولم نحذِفْها، وإن كان حذْفُها مُسْتحقا، لئلا يلتبس الاستفهامُ بالخبر، وهنا لا لبْس.
وقال ابن عطية: قرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع {آستغفرْت} بمدّة على الهمزةِ. وهي ألفُ التسوية. وقرأ أيضا بوصْلِ الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كلِّه ضعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت همزة الوصلِ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام، وهو يُريدها، وهذا ممّا لا يُسْتعملُ إلاّ في الشعر. قلت: أمّا قراءته {استغفرْت} بوصْلِ الهمزة فرُوِيتْ أيضا عن أبي عمروٍ، إلاّ أنه هو يضُمُّ ميم {عليهم} عند وصْلِه الهمزة؛ لأن أصلها الضمُّ، وأبو عمرو يكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين. وأمّا قوله: وهذا ممّا لا يُسْتعمل إلاّ في شعرٍ. فإنْ أراد بهذا مدّ هذه الهمزةِ في هذا المكانِ فصحيحٌ، بل لا نجده أيضا، وإن أراد حذْف همزة الاستفهام فليس بصحيحٍ لأنّه يجوزُ حذْفُها إجماعا قبل {أم} نثرا ونظْما، وأمّا دون {أم} ففيه خلافٌ، والأخفشُ يُجوِّزُهُ ويجعلُ منه {وتِلْك نِعْمةٌ} [الشعراء: 22] وقوله:
طرِبْتُ وما شوْقا إلى البيضِ أطْربُ ** ولا لعِبا مني وذو الشّيْبِ يلْعبُ

وقول الآخر:
أفْرحُ أنْ أُرْزأ الكرام وأنْ ** أُوْرث ذوْدا شصائِصا نبْلا

وأمّأ قبل {أم} فكثير كقوله:
لعمْرُك ما أدْري وإنْ كنتُ داريا ** بسبْعٍ رميْن الجمْر أم بثمانٍ

وقد مرّتْ هذه المسألةُ مستوفاة ولله الحمدُ.
{هُمُ الّذِين يقولون لا تُنْفِقُوا على منْ عِنْد رسُولِ اللّهِ حتّى ينْفضُّوا ولِلّهِ خزائِنُ السّماواتِ والْأرْضِ ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يفْقهُون (7)}
قوله: {ينفضُّواْ}: قرأ العامّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي {يُنْفِضُوا} مِنْ أنْفض القومُ: فنِي زادُهم. ويقال: نفض الرجلُ وعاءه من الزاد، فأنْفض، فيتعدّى دون الهمزةِ ولا يتعدّى معها، فهو من بابِ: كببْتُه فأكبّ. قال الزمخشري: وحقيقتُه: حان لهم أنْ ينْفُضُوا مزاوِدهُم.
{يقولون لئِنْ رجعْنا إِلى الْمدِينةِ ليُخْرِجنّ الْأعزُّ مِنْها الْأذلّ ولِلّهِ الْعِزّةُ ولِرسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يعْلمُون (8)}
قوله: {ليُخْرِجنّ الأعز}: قراءة العامّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ، مسْندا إلى {الأعزُّ}، و{الأذلّ} مفعولٌ به، والأعزُّ بعض المنافقين على زعمه. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ {لنُخْرِجنّ} بنون العظمة وبنصبِ {الأعزّ} على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ، وبه استشهد منْ جوّز تعريفها. والجمهورُ جعلوا أل مزيدة على حدِّ:
فأرْسلها العِراك

وادخلوا الأوّل فالأوّل. وجوّز أبو البقاء أنْ يكون منصوبا على المفعول به، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ، أي: مُشْبِها الأذلّ. وقد خرّجه الزمخشريُّ على حذْفِ مضافٍ، أي: خروج الأذلِّ، أو إخراج الأذلِّ، يعني بحسبِ القراءتين: مِنْ خرج وأخْرج. فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ. ونقل الدانيُّ عن الحسن أيضا {لنخْرُجنّ} بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ {الأعزّ} على الاختصاصِ كقولهم: (نحن العرب أقْرى الناس للضيفِ)، و{الأذلّ} نصبٌ على الحالِ أيضا، قاله الشيخ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم: بأنهم يخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ، أي: أخصُّ الأعزّ، ويعْنُون بالأعزِّ أنفسهم؟ وقد حكى هذه القراءة أيضا أبو حاتمٍ، وحكى الكسائي والفراء أنّ قوما قرؤوا {ليخْرُجنّ} بفتح الياء وضم الراء ورفع {الأعزُّ} فاعلا ونصب الأول حالا وهي واضحةٌ. وقرئ {ليُخْرجنّ} بالياء مبنيا للمفعول {الأعزُّ} قائما مقام الفاعل، {الأذلّ} حالٌ أيضا.
{وأنْفِقُوا مِنْ ما رزقْناكُمْ مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمُ الْموْتُ فيقول ربِّ لوْلا أخّرْتنِي إِلى أجلٍ قرِيبٍ فأصّدّق وأكُنْ مِن الصّالِحِين (10)}
قوله: {وأكُن}: قرأ أبو عمروٍ {وأكون} بنصب الفعل عطفا على {فأصّدّق} و{فأصّدّق} منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: {لولا أخّرتني} والباقون {وأكُنْ} مجزوما، وحُذِفتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: عطفا على محلِّ {فأصّدّق} كأنه قيل: إنْ أخّرْتني أصّدّقْ وأكنْ. وقال ابنُ عطية: عطفا على الموضع؛ لأنّ التقدير: إنْ أخّرتني أصّدّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يدُلُّ عليه التمني، ولا موضع هنا لأن الشرط ليس بظاهرٍ، وإنما يُعْطفُ على الموضع حيث يظْهرُ الشرطُ كقوله: {من يُضْلِلِ الله فلا هادِي لهُ ويذرُهُمْ} [الأعراف: 186] فمنْ جزم عطفه على موضع {فلا هادِي لهُ} لأنه لو وقع موقعه فِعْلٌ لانجزم. انتهى. وهذا الذي نقله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النّحويين. ونظّر سيبويه ذلك بقول زهير:
بدالي أني لسْتُ مُدْرِك ما مضى ** ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا

فخفض (ولا سابقٍ) عطفا على (مُدْرِك) الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كثُر جرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِم على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِض على توهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنّ الجامع توهُّمُ ما يقْتضي جواز ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظ مستعملا في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظا. وقال أبو عبيد: رأيتهُ في مصحف عثمان {وأكُنْ} بغير واوٍ. وقد فرّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال: الفرقُ بينهما: أنّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ. انتهى. قلت: مثالُ الأول: (هذا ضاربُ زيدٍ وعمرا) فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو (ضارب) موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنّ العامل للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأصْرحُ منه بيتُ زهير فإنّ الباء مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوف لا في المعطوف عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرئ القيس:
فظلّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ ** صفيفِ شِواءٍ أو قديرٍ مُعجّلِ

فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهّم أنه أضاف (منضج) إلى (صفيف)، وهو لو أضافه إليه لجرّه فعطف (قدير) على (صفيف) بالجرِّ توهما لجرِّه بالإِضافة.
وقرأ عبيد بن عمير {وأكونُ} برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدةٌ منه بالصّلاح.
{ولنْ يُؤخِّر اللّهُ نفْسا إِذا جاء أجلُها واللّهُ خبِيرٌ بِما تعْملُون} (11)
وقرأ أبو بكر {بما يعملون} بالغيْبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان. وقرأ أُبي وعبد الله وابن جبير {فأتصدّق} وهي أصلُ قراءة العامةِ ولكنْ أُدْغِمتْ التاءُ في الصاد. اهـ.
??

??

??

??